Leave a comment

أرض جديدة _ ميخائيل نعيمة

ميخائيل نعيمة

لا بدَّ من يوم تتوحد فيه البشرية فتغدو هذه الدول وهذه الدويلات التي يكتظ بها سطح الأرض دولة واحدة لا منافس لها في الحكم والسلطان إلا الطبيعة. وإذ ذاك فالقوى البدنية والروحية الهائلة التي تهدرها اليوم شعوب الأرض هدرًا في المحافظة على كيانها القومي والسياسي والاقتصادي أو في توسيع ذلك الكيان على حساب جاراتها القريبات والبعيدات تتحوَّل جميعها من أسلحة هدَّامة أثيمة إلى أسلحة بنَّاءة كريمة. فهي هدامة وأثيمة ما دام الإنسان يستعملها لامتهان كرامة أخيه الإنسان ولمزاحمته على لقمة يتبلغ بها أو على ساعة من الهناءة يكشح بها غيوم المعيشة عن قلبه. وهي بناءة وكريمة عندما يلجأ إليها الإنسان ليبتز من الطبيعة خيراتها ويفض ما أغلق عليه من أسرارها فيسخرها لغاياته بدلاً من أن يكون مسخرًا لغاياتها، ويذللها لمشيئته بدلاً من أن يكون عبدًا لمشيئتها.

لا بدَّ من يوم تتمزَّق فيه غشاوات التعصب الإقليمي والعرقي والديني عن أعين الناس فيبصرون من بعد عمى، ويستفيقون من بعد غفلة. ويدركون أن ما ينفع أمة ينفع كل الأمم. وما يضير أمة يضير كل الأمم. وأن الأرض ليست موطنًا لشعب دون شعب، وخيراتها ليست وقفًا على دولة دون دولة. وأن النزاع على الأرض لا غالب فيه إلا الأرض: أما النزاع مع الأرض فقد يؤدي –بل هو سيؤدي حتمًا – إلى غلبة الإنسان على الأرض. وغلبة الأرض على الإنسان ستكون نقطة انطلاقه إلى الحرية. وهي غلبة لن تتم لهذه الأمة وحدها أو لهاتيك. بل تتم بجهود جميع الأمم وجميع الناس. وإذن فهي غلبة الإنسانية لا غلبة دولة بعينها أو إنسان بعينه. وإذن فالغنيمة هي للكلِّ بالسواء، لا للعملاق دون القزم، ولا للمبصر دون الضرير، ولا للشاب والكهل دون الطفل والشيخ.

أجل، لا بدَّ من يوم تبوح فيه الأرض بأسرارها للإنسان، فيبصر أين كان وماذا كان وكيف تدرَّج على مدى الأزمان، ويدرك أنه ما تقمَّط بالزمان ليبقى إلى الأبد رهين الزمان. بل ليقهر في النهاية الزمان. ولا استوطن الأرض ليستأثر للأرض بل ليجعل منها نقطة الوثوب إلى السماء.

في ذلك اليوم يقرأ الناس تاريخ هذه المدينة التي نزهو بها ونضحِّي بالطارف والتليد في سبيل الحفاظ عليها فيضحكون منَّا، ويتفكَّهون بأخبارنا مثلما نتفكَّه نحن بأخبار أبناء الكهف والغاب الذين سبقونا، ومثلما يتفكَّه كاتب عبقريٌّ في عنفوان فيضه وإنتاجه بمقال كتبه وهو في أول عهده بالقلم والحبر والقرطاس وألوان الكلم، أو مثلما يتفكَّه رسام عظيم بصورة دجاجة أو قطة رسمها بالفحم على جدار منزله وهو ما يزال في الخامسة من عمره. وكما يبدو لنا البعير لدى المقارنة بالسيارة، والجواد بالطيارة، والنشَّابة بالصاروخ، والزند بالكهرباء، والصوت نرسله من حناجرنا في الفضاء فلا يتعدى الميل أو الميلين، بالصوت نودعه المذياع فيلف الأرض في طرفة عين، كذلك ستبدو فتوحاتنا العلمية ونظمنا السياسية والاجتماعية والدينية ألاعيب صبيانية لدى المقارنة بالفتوحات والنظم التي ستعرفها الأجيال من بعدنا.

في ذلك اليوم تتناجى البقاع التي كانت قفرًا يبابًا في الأرض فتقول صحراء ليبيا لصحراء غوبي:

“ما أعذب الري بعد العطش!”.

ويقول الربع الخالي لبادية الشام: “ما أطيب الأنس بعد الوحشة!”.

وتقول صحراء أريزونا للدهناء: “ما أجمل الخصب بعد العقم!”

وتهتف جميعها بصوت واحد: “ما أعظم الإنسان!”

ويخاطب القطب الشمالي يومئذٍ أخاه القطب الجنوبي فيقول:

“الفصل صيف. وعهدي بل تنام الصيف كله. فما هذه الجلبة تأتيني من عندك؟ ألا ردها عني”.

فيجيبه القطب الجنوبي: “بل ردَّ شمسك عني لأردَّ جلبتي عنك. أو رد عني هذه الجماهير من الناس يهبطون عليَّ من الجو ويحوِّلون ليلي نهارًا وشتائي صيفًا ثم يحرقون فروتي الأزلية البيضاء بأشعة شموسهم الكثيرة، ويسرحون ويمرحون في أرجائي وكأنهم في مهرجان”.

ويهتف القطبان معًا: “ما أعظم الإنسان!”

وتتسامر يوم ذاك البحار فيقول البحر الأسود للبحر الأحمر:

“حلمت في الليلة البارحة أن أساطيل جرَّارة كانت تمخر مياهي، وقد اشتبكت في صراع مدوٍّ عنيف وصبغت وجهي بالدم. فأفقت من حلمي وأحشائي في اضطراب”.

فيجيبه البحر الأحمر: “هون عليك. فما حلمك غير ذكريات ماض سحيق لن يعود. أما أنا – ولك أنت تصدق أو لا تصدق – فقد رأيت في اليقظة فرعون ورجاله وموسى ورجاله يتوافدون إليَّ ويتبادلون الأنخاب والقبل، ويمشون على سطحي وكأنهم يمشون على اليابسة. فقل معي: ما أعظم الإنسان!”

في ذلك اليوم يعلن افتتاح أعظم متحف عالمي للعاديات في قلب القارة التي كانت تدعى أمريكا الشمالية. وتذاع بالأثير رسوم كلِّ ما فيه من المعروضات الغريبة، ويسمع الناس في كل صقع من أصقاع الأرض صوت المذيع يحدثهم عن أهمية المتحف ويشرح لهم بعض الآثار المعروضة فيه فيقول في بعض ما يقول:

“من الخير أن نعرف ماذا كنَّا لنعرف ماذا سنكون. ونحن الذين دانت لنا الأرض بأبعادها وأغوارها وأسرارها يليق بنا أن نحذر الغرور الذي وقع فيه الكثير من أسلافنا إذ ظنوا أنهم أدركوا الذروة وأنهم بلغوا ما بلغوه من المعرفة بجدِّهم وجهدهم غير حاسبين لمن سبقهم حسابًا،

وغير عارفين أن لكلِّ إنسان من آدم حتى آخر مولود لفظته الحياة شركة في كل ما خلقته وتخلقه الإنسانية من خير ومن شرٍّ.

فما من يد أنتجت شيئًا إلا شاركتها فيه أيدي الناس أجمعين. وما من عقل تمخَّض عن أمر من الأمور إلا كان نتيجة لما تمخَّضت عنه سائر العقول! إنَّ لكم في هذا المتحف الذي أنفقنا السنين الطوال في جمع آثاره وترتيبها لأبلغ شاهد على ما أقول.

إلا أن أسلافنا – لا سيما أجدادنا في القرن العشرين – ما كانوا يفقهون ذلك. ولأنهم ما فقهوه كان كلٌّ منهم يحاول الاستئثار بأكبر قسط من نتاج أيدي الناس وعقولهم، لا همَّ له أبلغ مآربه بالمحبة أم بالبغض، وبالصدق أم بالكذب، وبالطهارة أم بالدعارة، وبالحق أم بالقوة. ولا همَّ له أجاع جاره أم شبع، أعاش عزيزًا أم مات منسيًا على قارعة الطريق.

ولذلك كانوا يتنابذون أبدًا ويتناهشون ويتحاربون ثم يعجبون أنهم يطلبون السلم وعلى السلم لا يحصلون. لقد بلغ بهم الجهل حدَّ الإيمان الأعمى بأن في استطاعة الجشع أن يعيش في سلام أبدي مع الحرمان، والجوع مع الشبع، والإخلاص مع الرياء، والمحبة مع البغضاء، والطهارة مع القذارة. وكان دستورهم في الحياة: العيش كفاح والغُنم للغالب، والغُرم للمغلوب، ومن أراد السلم فليستعدَّ للحرب. أمَّا الحرب فكانوا يدعونها خدعة.

وإذن فحياتهم كانت خداعًا في خداع، فلا عجب إن كانت النتيجة حروب الفناء التي يحدثكم عنها التاريخ، ثمَّ هذه العاديات التي استطعنا نبشها من بين أنقاض مدنهم ومدينتهم.

لئن كنَّا ننعم اليوم بطعم السلم الطيب، والتعاون الجميل، والعمل المثمر، فنمتطي الهواء حين نشاء وحيث نشاء من غير أجنحة ومحركات، ونلجم العواصف، ونسوق السحب، ونكشح العتمة عن الأرض بغير أسلاك ومصابيح، ونسمع جوقة الأفلاك وأعذب الألحان بغير آلات وأوتار، ونتبادل الأفكار والعواطف بغير حبر وورق وبغير مطابع – لئن كنا ننعم بهذه البركات وسواها فما ذاك إلا لأننا عرفنا عظمة الإنسان وتفاهة كل ما في الأرض بالنسبة إليه فنبذنا الكثير من سخافات السلف التي تبدو لنا اليوم مهازل ومساخر.

أوَ تدركون هذه الخِرق الملونة البالية المعروضة عند مدخل المتحف ما هي؟ هي أعلام بعض الأمم التي سبقتنا. ففي سالف الأزمان كان الناس يعيشون أممًا. وكان لكل أمة علم تعتَّز به وتهرق دماء بنيها في الذود عن شرفه. ولكم نشبت حروب من أجل علم. فكان العلم أغلى من الدم، وأقدس من الحياة، وأشرف من الإنسان.

وهذا الكراس في يدي – أتدرون ما هو؟ هو نموذج من نماذج كثيرة لشهادة ما كان يستطيع أحد من الناس أن ينتقل من بلد على بلد بدونها. وكانوا يدعونها جواز سفر.

وكان لا بد لهذا الجواز من أن يصدر عن سلطة معترف بها، ومن أن ينطوي على وصف دقيق لحامله – متى ولد، وأين، وما هو طوله وعرضه ولون شعره وعينيه، وهل هو عازب أو متزوج، وما هو غرضه من سفره وغير ذلك من الشؤون. لا تضحكوا، فهذا الجواز لحامله كان بمثابة الروح أو أغلى. والويل لمن كانوا يصطادونه مسافرًا بغير جواز أو بجواز مزور. فقد كان نصيب ملاك بين زمرة من الشياطين خيرًا من نصيبه. والأسخف من ذلك أن الدخول إلى بعض البلدان – بجواز أو بغير جواز – كان أصعب من دخول إبليس إلى الجنة. ذلك لأن شرع الناس كان يبيح لكل أمة من الأمم أن تستقلَّ ببقعة من الأرض فتستغلها أو لا تستغلها على هواها، وتبذِّر خيراتها أو تبقيها دفينة في التراب، وتقبل من تريد قبوله وترفض من تريد رفضه.

وتلك البقعة كانت تدعى وطنًا. وكان من أقدس واجبات ساكنيها أن يموتوا في الدفاع عنها. وذلك الضرب من الموت كان يدعى بسالة واستشهادًا في سبيل الاستقلال والحرية!

وإليكم هذه الوريقة، أوتعلمون ما هي؟ هي كذلك نموذج من نماذج كثيرة كانت تُعرف باسم أوراق النقد.

فقد كان الناس يبيعون نتاج قلوبهم وأفكارهم وعضلاتهم ويقبضون أثمانها كميات متفاوتة من مثل تلك الأوراق.

فكان أوسعهم حيلة وأعظمهم ذكاء ودهاء أكثرهم نقدًا. وهؤلاء كانوا يدعون أغنياء. وكان أقل الناس دهاء وذكاء وحيلة أقلهم نقدًا. وأولئك كانوا يدعون فقراء. ولأن أهل الحيلة والذكاء والدهاء كانوا دائمًا قلة فقد كان الجانب الأكبر من الناس في بؤس مقيم وضنك شديد، وكانت القلة تتحكَّم أبداً في حياة الكثرة.

لعلَّكم لا تصدقون إذا قلت لكم إنَّ هذه الأوراق كانت عند أسلافنا بمعزَّة الروح، بل أعزُّ من الروح. فبها كانوا يبتاعون كل مقوِّمات الحياة. وبدونها لم تكن لهم حياة. حتى القوت الضروري، وحتى المعرفة، وحتى الرحمة والعافية كانت بضاعة يعزُّ الحصول عليها إلا بمثل هذه الأوراق. ولذلك كان الجهل والمرض والقذارة نصيب الفقراء في الأرض وهم الأغلبية الساحقة في الأرض، والذين ما جادت الأرض بخيراتها إلا بقوة سواعدهم وعرق جباههم. وبشرية تحبس أقليتها الرزق والمعرفة والعافية عن أكثريتها وتمتهن الإنسان إلى حد أن يبيع كرامته بكسرة خبز وقميص وحذاء كيف ترجو لها التقدم والسلام الاستقرار؟ وأي عجب في أنها راحت تنهش بعضها بعضًا حتى لكادت تفنى من الأرض وكادت تفسد الأرض؟

وماذا عساني أقول لكم عن هذه القبعات الثقيلة الوزن التي كانوا يدعونها تيجانًا، وعن هذه العصي التي كانت صوالجة، وهذه المسكوكات التي كانت أوسمة؟ لقد كانت في نظر أسلافنا عنوان العزِّ والسؤدد والسلطان والشرف والعظمة والمجد الأثيل. ألا رحم الله أجدادنا. فما كفاهم مجدًا أنهم نبتة ربانية جذورها في الأزل وفروعها في الأبد حتى راحوا يزينونها بتعاويذ يعلِّقونها على أغصانها ومساحيق يذرونها على أوراقها.

ولكننا قبيح بنا أن نسخر بأجدادنا. فمن ضلالهم صوابنا، ومن ضعفهم قوتنا، ومن جورهم عدلنا، ومن قساوتهم لطفنا، ومن سخافتهم جِدنا، ومن عتمتهم نورنا، ومن عبوديتهم حريتنا، ومن حروبهم سلمنا. لقد مشوا بنا شوطًا بعيدًا إلى الذروة. وما تزال أمامنا أشواط. ولقد دانت لنا الأرض. ولكننا ما نزال عبيد السماء. فجميل بنا أن نفتح للآتين من بعدنا أبواب السماء مثلما فتح لنا الماضون من قبلنا أبواب الأرض. وأبواب السماء ستنفتح للإنسان الموَّحد الفكر والقلب والإرادة. وستهتف السماء والأرض معًا: “ما أعظم الإنسان!”

ميخائيل نعيمة _ معابر .

Leave a comment

رحلة مع الواقع , يقصّها علينا ميخائيل نعيمة

By Karen Elzinga


رحلة مع الواقع , يقصّها علينا ميخائيل نعيمة في كتابه “اليوم الأخير” 
:

وأبصر في المباني و المساكن , والمتاجر , والمصانع , والمعابد , والمستشفيات , والثكنات , والمقاهي , والملاهي , والمحاكم , والسجون , ودور العلم والفنّ وغيرها وغيرها من أصناف المباني التي يشيدها الناس لشتى الغايات والمناسبات .

ففي المساكن أبصر أرحاماً تمتلئ وأرحاماً تفرغ . وأبصر طفولة تحبو إلى الصبا , وصبا يندفع نحو الشباب , وشباباً يعدو إلى الكهولة , وكهولة تهرول إلى الشيخوخة , وشيخوخة تدبّ إلى القبر . أبصر عيوناً تدمع , وعيوناً تضحك , وعضلات يفتّتها الوجع والهلع , وأوداجاً يفجّرها الحقد والغضب . أبصر هموماً تتلبّد غيوماً , وغيوماً تنقشع عن نجوم .أبصر حياة الناس في جدّها وهزلها , وفي مدّها وجزرها .

وفي المتاجر أبصر باعة يترصّدون الشاري ترصّد العنكبوت للذبابة . والكلّ قد علقوا في شباك لا براح لهم منها . إنّها شباك الإله الساحر الماكر القهّار الذي اسمه الدينار .وفي المصانع أرى بشراً يعالجون ماكينات لا لحم فيها ولا دم , ولا فكر لها ولا قلب . ولكنها تستعبد الذين يعالجونها , فتمتصّ لحومهم ودماءهم , وتستبدّ بأفكارهم وقلوبهم بإسم التقدّم وإسم الدينار .

وفي المعابد أرى بخوراً وشموعاً تحترق , وجباهاً تنطح الأرض , وأكفّاً ترتفع إلى فوق , وأيدياً تقرع الصدور , وشفاهاً تتمتم ابتهالات وتسابيح وتضرعات . فلا أرى الجباه تشرق بالنور , ولا الأكفّ تمتلئ بالخيرات , ولا الصدور تتطهّر بالبخور , ولا الشفاه تسيل بالبركات .

وفي المستشفيات أرى المباضع تعمل في اللحم والعظم , وفي الأحشاء والأمعاء . وأرى الجراثيم في سباق مع العقاقير , والأسرّة تترنّح بالأوجاع , والذين تجنّدوا للدفاع عن العافية ضدّ السقم أرى بعضهم يطعن العافية في الظهر .ولا عجَب , فلو أنتصرت العافية على السقَم لما كان لهم ما يعملون . فمن سقم الناس رزقهم ورضا الدينار الذي بإسمه يسبّحون .

وفي الثكنات أرى أقواماً جعلَت منهم شرائع الناس دمى وآلاعيب وذبائح تقدمها لطاغوت يدعى الدولة أو الأمّة .وهذه الدمى لا تملك من أمرها غير واجب الطاعة العمياء والخرساء . فلا حق لها في الصياح , أو النباح , أو الشكوى مهما تكن المهام المنوطة بها . إنّها هناك لتزرع الموت ولتحصد الموت عند الحاجة . وأكرِم بزارع الموت وحاصده من بطل !

وفي المقاهي والملاهي أرى الناس يتدافعون بالمناكب هرباً من فراغ هائل في نفوسهم , تزحف فيه الثواني بأرجل من رصاص فتضيّق عليهم أنفاسهم وتكاد تُزهق منهم الروح .إنّهم يستجيرون من الرمضاء بالنار , ويهربون من الدبّ إلى الجبّ , ويطفئون عطشهم إلى الماء القراح بالماء الأجاج .إنهم يملأون الفراغ بالفراغ , ويطردون السأم بالسأم , وتبقى الدقائق . أمّا هم فيتهرّمون .

وفي المحاكم أرى رجالاً تجلببوا بسلطان القانون . ورجالاً ونساءً يستجدون منهم العدل والرحمة بإسم القانون . وأرى الرحمة والعدل يقرعان أبواب المحاكم قرعاً موصولاً , فلا تُفتح لهما الأبواب , ولا يُسمح لهما بالدخول .

وفي السجون أبصر الآلاف المؤلفة من الذين قضى عليهم القانون بالعيش ضمن جدارن كالحة , قاسية , عابسة بينها وبين الشمس المحيية والهواء الطلق والنظافة المنعشة جفاء مقيم . مثلما قضى عليهم بالحرمان من كلمة لطيفة , وبسمة عذبة , ولمسة مؤنسة , وبضروب من التعذيب والتهشيم والتحقير يقشعّر لها حتى الشيطان الرجيم . أولئك هم الذين في طبائعهم ما ليس يأتلف وطبيعة القانون . ولذلك يطيعون طبائعهم ويعصون طبيعة القانون . فيقتلون لا حيث يأمر القانون بالقتل بل حيث تأمرهم طبائعهم وينهاهم القانون . ويحبّون حيث الحبّ جريمة , ويتزوّجون حيث الزواج زنا في عرف القانون .ويأكلون من طيّبات ما رزقهم ربّهم عندما تكون تلك الطيّبات في حوزةٍ غير حوزتهم . فهم لذلك جَرَب وطاعون ونفايات كريهة في مجتمع سليم الروح والبدن , وطاهر النفس والأنفاس . والقانون الساهر أبداً على سلامة المجتمع وطهارته يرى الخير كلّ الخير في نبذهم وحصرهم ضمن السجون ريثما من رجاساتهم يتطهّرون .

وفي دور العلم والفن أبصر حشوداً من الطلّاب والطالبات وقد أقبلوا ينهلون المعرفة . وها أنا منهل من تلك المناهل . فأي المعرفة هي معرفتي ؟
وماذا نهلت من غيري لينهله غيري مني ؟ ولو أنّ ما نهلته كان يطفئ عطشاً لأطفأت عطشي .
فكيف أروي غيري وأنا عطشان ؟ كيف أنير لغيري السبيل وأنا أسير في ظلمة دامسة ؟ كيف أكحّل أجفان غيري بمرود الجمال وأجفاني يتآكلَها الصديد والرمَد ؟ كيف أحرّر غيري من ربقة الأرض والسماء وطواغيت الهموم والشهوات , وأنا رقيق السماء والأرض , والشهوة والهمّ ؟ 

 *الصورة المرفقة بالمقال من أعمال Karen Elzinga .

Leave a comment

قراءة في مسرحية ” الدراويش يبحثون عن الحقيقة ” _ مصطفى الحلاج

“الدراويش يبحثون عن الحقيقة” عنوان لمسرحية قصيرة مؤلفة من ثلاثة مشاهد كتبها مصطفى الحلاج عام 1970 ، ويقول فيها حنا مينه أثناء تقديمه للكتاب : “وهي بالتأكيد ، لم تكتب للعام الذي ظهرت فيه ، ولا للذي سبقه أو يليه ، بل لكل عام يمضي ، وكل عام يأتي ، لأنها كقضية انسانية ، تحمل قضية الانسان في كل زمان ومكان” .

تتمحور أحداث المسرحية حول بطلها “درويش عزالدين” الذي تم القاء القبض عليه نسبة لتشابه في الأسماء مع ثائر يساري يحمل نفس الإسم ، فيصبح درويش المعلم (بطل المسرحية) هو درويش التاجر (اﻵخر) في محاولة منه للهروب من آلام التعذيب وعقلية المحقق الذي يريد الإقتصاص من درويش الثائر بجميع دراويش الأرض لطالما ظنوا أنهم بمعزل عن قذارة العالم !

حيث يقول درويش المتهم :

“أعرف ان أحدا اذا ما القى حجرا في وسط البحر اهتزت شطآن الدنيا كلها .. هذا هو ما حدث بالضبط .. جاء أحد الدراويش والقى الحجر ، وعلى جميع دراويش الأرض اذن ان تهتز اجسامهم المسكينة ويرجعوا الصدى .. أنا نفسي واحد من هؤلاء الدراويش ، وعلي ان اهتز للصدى .. الجريمة هي جريمة كل الدراويش .. وقد حق عليهم بسببي العذاب والخراب” .

في المشهد الثاني من المسرحية يعيش البطل صراعا وهميا بين زوجته الحقيقية (زينة) وزوجة اﻵخر (صبيحة) التي اصبحت تخصه بعد أن تقمص شخصية اﻵخر تحت التعذيب ، فيكون الصراع بين أن يحمل هموم العالم ويجابهها وبين أن يعود مسالما لا شأن له بما يحدث . فيدور الحوار التالي :

-درويش : سأنزع العالم من قلبي وأطرحه خارجا .. بل سوف اطرحه في مستنقع آسن .

-صبيحة : ليس العالم وسخا عالقا بثوبك يا درويش .. انه في قلبك .

_درويش : ليس في قلبي .. كذب .. انه وسخ وسوف اتطهر منه .

-صبيحة : انظر في قلبك .. انظر .. تره يفور من نبع .

_زينة : اطرحه .. انه وسخ طارئ .

-درويش : أسكتي .. ما ادراك انت ما هي جلية الأمر ؟ .. دعيني اتبين الحقيقة .. هل هو نبع يفور من قلبي أم هو وسخ طارئ ؟ .. اذا كان وسخا طارئا فلماذا تراه يفور ؟ . امتاحه كما يمتاح الملاح الماء من سفينته ثم تمتلئ به من جديد ؟ أهو اﻵن في قلبي ! .. أخبرني يا قلبي البائس .. هل يفور العالم في حناياك كما يفور الدم ؟ . ايكون العالم هو ما يجري فيك ؟ . ايكون العالم هو دمي .. تراه هو دمي عينه .. هو دمي عينه ..

-صبيحة : عرفت أخيرا يا درويش . 

انفجر النور يا درويش كما ينفجر نور الصباح .. ولا حيلة في استرجاع الظلمة الآفلة .. انت تبصر اﻵن يا درويش .

-درويش : احترقت عيناي من الابصار .. احترقتا .. احترقتا ..

-صبيحة : افتحهما الى اوسع مدى .. ابصر اكثر ..

_درويش : الرؤيا تبهرني .. قلبي يرتعد مما أرى .. داخ رأسي .. داخ كأنما أنا محمول على جناح برق ..

_صبيحة : امض معي يا درويش فأنا جناح البرق .. امض لتر أكثر مما رأيت وتسمع أكثر مما سمعت وتحس أعظم مما أحسست .. فات زمن العودة يا درويش .. عيناك أصبحتا كالرصاص الذائب .. واسعتين .. براقتين فيهما اصباغ العالم وألوانه وخطوطه وخفاياه ! .. هيا احمل اثقالك وامض ..

-درويش : امضي بدون سلاح .. أين سلاحي ؟

-صبيحة : سلاحك هو الرؤية .. سلاحك أن تعرف وتدرك وتبصر .

في المشهد الثالث تتحول خشبة المسرح الى محكمة يعتليها القاضي والمحقق ، وفي محاولة أخيرة لإثبات درويش براءته يخير القاضي -الذي طالبه بقول الحقيقة- بين أن يصدق الملف الذي لفقت فيه الإدانة ، أو أن يصدق الحقيقة التي سينطقها .

لكن القاضي يمتثل أخيرا لسلطة المحقق ويختار تصديق الملف الماثل بين يديه خوفا من تعرضه لأذية المحققين . وهكذا يدان درويش بالجريمة وينذر دراويش العالم بنفس المصير ! .

Leave a comment

روبسبيير وتبريره للعنف والاستبداد

قال روبسبيير في تبريره للعنف والاستبداد :

“يجب ألا يخلط الناس بين استبداد الحرية واستبداد الطغيان، فالشدة التي يلجأ إليها الطغاة مصدرها التعنت والقسوة، أما الشدة التي تمارسها الجمهورية فمصدرها حب الخير”.

———————

لقد كان الجانب السلبي الخطير في شخصية روبسبيير هو الايمان بالعنف وعدم القدرة على الحوار وسرعة الشك في الآخرين واللجوء إلى الاتهام والخيانة ضد كل صاحب رأي مختلف حتى لو كان صاحب هذا الرأي من حزب اليعاقبة أنفسهم .

ومن الذين أعدمهم روبسبيير زميله جورج جاك دانتون الذي كان من أذكى وأقوى زعماء اليعاقبة وكان في البداية مؤمنا بالعنف وإسالة الدماء لحماية الثورة إلا أنه عندما أحس أن موجة العنف قد بلغت حدوداً غير مقبولة فدعا إلى الاعتدال وضبط النفس وهنا اعتقد روبسبيير أنه انحرف عن الثورة واتهمه بالخيانة والتآمر ونجح في إصدار حكم بإعدامه .

كما أعدم زميلاً آخر هو ديمولان لأنه ألف كتابا دعا فيه الثورة وزعماءها للرجوع إلى فضائل الرحمة والاعتدال والكف عن تقديم رؤوس الناس إلى المقصلة. فدبر مؤامرة لاعتقاله واعدمه سنة 1794 وهو في السادسة والثلاثين من عمره. 

قال الدوس هكسلي :” أن العنف يفضى إلى العنف وأن كل إصلاح ينهض على العنف يذهب به العنف”.

chaam

Leave a comment

احترام الحيوان

an

في مناطق مختلفة من العالم ( الهند والبرازيل والامازون، وغيرها) ترضع النساء صغار الحيوانات التي فقدت امهاتها، اما بسبب الصيد او بسبب افتراس الحيوانات لهم.
في الهند يعتبر هذا الامر عند بعض الفئات امر ديني فالحيوان له قيمة الانسان ذاتها.

chaam

Leave a comment

رُسوم تحت تأثير المخدرات


رجل قام برسم نفسه وهو واقع تحت تأثير عدّة انواع من المخدرات :


Absinthe

Continue Reading »

1 Comment

غنّ اغنيتك لتجد طريقك

1601407_571704159573358_1648763097_n

هناك قبيلة افريقية لا يتم حساب تاريخ ولادة الطفل لحظة ولادته، ولا لحظة تشكله في بطن امه، وانما في اللحظة التي يخطر في فكر امه. و عندما تقرر المرأة ان يكون لها طفل ، تخرج لتجلس تحت شجرة ، لوحدها ، و تصغي الى ان تتمكن من سماع أغنية الطفل القادم.
و بعد سماعها الاغنية ، تذهب الى الرجل الذي سوف يكون والد الطفل ، وتعلمه الاغنية. عندها يمارسان الحب لتحقيق قدوم الطفل جسديا وهما يغنيان ذات الاغنية كدعوة منهما لقدومه.
عندما تحمل الام ، تعلم أغنية الطفل إلى القابلات و النساء العجائز من القرية، بحيث عندما يولد الطفل، يغني له العجائز و الناس من حوله اغنيته للترحيب به.
و بعد ذلك، عندما يكبر الطفل يكون جميع اهل القرية قد تعلموا اغنيته.
ان وقع الطفل ، واصاب ركبته ، يرفعه احدهم ويغني له اغنيته. كما يغنيها له اهل القرية كتكريم لشخصه مثلا إن قام ( او قامت) بعمل جميل، أو عند مراسم البلوغ.

وهناك مناسبة أخرى التي يعتمد فيها سكان القرية الغناء. في حال اركب (ت) هذا الشخص خلال حياته جريمة أو قام بعمل عدواني او شاذ على الصعيد الاجتماعي ، حينهايدعى الفرد إلى وسط القرية و يشكل الاهالي دائرة من حوله. ثم يغنون له اغنيته.

تعتبر هذه القبيلة بأن تصحيح السلوك المعادي للمجتمع لا يتحقق بواسطة العقاب ، بل بالحب و بتذكير الفرد بهويته.

فعندما تتعرف على اغنيتك الخاصة بك، لن تبق لديك الرغبة أو الحاجة إلى القيام بأي عمل من شأنه أن يضر الآخرين.

وهكذا تستمر حياتهم.

تغنى الاغاني معاً خلال الزواج. وفي النهاية عندما يرقد على الفراش ، استعداداً للموت، يغني له كل القرويين للمرة الاخيرة اغنيته هذه.

Sham

Leave a comment

اقتباسات كتاب ” التائهون ” للكاتب أمين معلوف .

أمين معلوف


أمين معلوف _ التائهون 

* لربما تصرفت مثله لوبقيت في البلد . فعن بعد , بوسعنا أن نرفض ونفلت من العقاب , أما عن قرب فنحن لا نتمتع دوماً بتلك الحرّية . ( ص 21 )

* للموت حكمته الخاصة , ولا بد في بعض الأحيان من تفويض أمرنا إليه عوضاً عن تفويضه لأنفسنا . (30)

* كل مغترب يخشى أن يرتكب هفوة , ومن السهل على الذين لم يفارقوا البلد أن يثيروا لديه شعوراً بالهزء والخجل لكونه أصبح مثله مثل أي سائح . (54)

* الرحيل عن الوطن هو سُنة الحياة , وأحياناً , تفرضه الأحداث , وإلا , يجب أن نخترع له عذراً . لقد ولدت على كوكب , لا في بلد . أجل , بالطبع , ولدتُ أيضاً في بلد , في مدينة , في طائفة , في أسرة , في حضانة , في فراش . ولكن المهم عندي , وعند جميع البشر على السواء , أنني جئت إلى هذا العالم . إلى هذا العالم ! فالولادة هي المجئ إلى العالَم , لا إلى هذا البلد أو ذاك , لا إلى هذا البيت أو ذاك . (61 _ 62)

* لكل أمرئ الحق في الرحيل , وعلى وطنه أن يقنعه بالبقاء – مهما ادعى رجال السياسة العظام . ” لا تسأل ماذا يمكن لوطنك أن يفعل لك , بل اسأل نفسك ماذا يمكن أن تفعله لوطنك” . من السهل قول ذلك حين يكون المرء مليارديراً , وقد أنتخب للتو , في الثالثة والأربعين من العمر , رئيساً للولايات المتحدة الأميركية ! أما حين لا تستطيع في بلدك إيجاد وظيفة , ولا تلقّي الرعاية الصحّية , ولا إيجاد المسكَن , ولا الإستفادة من التعليم , ولا الإنتخاب بحرّية , ولا التعبير عن الرأي , بل ولا حتى السير في الشوارع على هواك , فما قيمة قول جون كينيدي ؟ لا شيء يُذكر .

فعلى وطنك أن يفي إزاءك بعض التعهدات . أن تعتبر فيه مواطناً عن حق , وألا تخضع فيه لقمع , أو لتمييز , أو لأشكال من الحرمان بغير وجه حق . ومن واجب وطنك وقياداته أن يكفلوا لك ذلك , وإلا فأنت لا تدين لهم بشيء . لا بالتعلق بالأرض , ولا بتحية العلم , فالوطن الذي بوسعك أن تعيش فيه مرفوع الرأس , تعطيه كل ما لديك , وتضحي من أجله بالنفيس والغالي , حتى بحياتك ; أما الوطن الذي تضطر فيه للعيش مطأطئ الرأس , فلا تعطيه شيئاً . سواءٌ تعلّق الأمر بالبلد الذي استقبلك أو ببلدك الأم . فالنبل يستدعي العظمة , واللامبالاة تستدعي اللامبالاة , والازدراء يستدعي الازدراء . ذلك هو ميثاق الأحرار , ولا أعترف بأي ميثاق آخر . ص ( 68)

* أن يضمحل عالم الأمس هو من سُنة الحياة . وأن يشعر المرء نحوه بشيء من الحنين كذلك من سُنة الحياة . إننا نجد بسهولة العزاء لفقدان الماضي , ولكن ما من شيء يعزينا لفقدان المستقبل . فالبلد الذي يحزنني غيابه ويؤرقني , ليس ذاك الذي عرفته في شبابي , بل ذاك الذي حلمت به , والذي لم يقدَّر له أن يُبصرَ النور أبداً . (69)

* لا يكف الآخرون يرددون على مسمعي أن تلك هي حال المشرق , وأنه لن يتغير , وأنه ستكون هنالك دوماً عصابات وتجاوزات للقانون , ورشى , ومحاباة صارخة , وأن لا خيار آخر سوى التكيف مع هذا الوضع . وبما أني أرفض كل ذلك جملة وتفصيلاً , يتهمونني بالتعجرف , لا بل بعدم التسامح . أيكون المرء متعجرفاً لو تمنى ان يكون بلده أقل رجعية , وأقل فساداً , وأقل عنفاً ؟ أيكون متعجرفاً أو غير متسامح لو رفض عدم الإكتفاء بديمقراطية تقريبية وبسلم أهلي متقطع ؟ إذا كان هذا هو الحال , فأنا أجاهر بخطيئة التعجرف , وألعن قناعتهم الفاضلة .(70)

* بلى إنني أصدر أحكاماً , وأمضي وقتي أصدرها . يثير غيظي للغاية أولئك الذين يسألونك , وفي عيونهم هلع مصطنع : “”أتصدر علي حُكماً؟” أجل , بالطبع , أصدر عليكم حكماً , ولا أكف عن الحكم عليكم . ولكن الأحكام التي أصدرها لا تؤثر في حياة “المتهمين” . أمنح احترامي أو أسحبه , أحدّدُ جرعة دماثتي , أعلِّق صداقتي بانتظار الحصول على المزيد من القرائن , أبتعد , أقترب , أنتحي جانباً , أمهل , أعفو عما مضى , – أو أتظاهر بذلك . ومعظم المعنيين بالأمر لا ينتبهون حتى لذلك . لا أعلن احكامي , لستُ واعظاً , وتأمل الدنيا لا يثير لديّ سوى حوار داخلي , مناجاة مع نفسي لا نهاية لها . (73_74)

* هناك أشخاص يبدون إعجابهم بهذا البلد غير الاعتيادي . أما أنا فلا أجد ما يثير الإعجاب في ذلك , ولا ما يضحك , ولا ما يدعو للفخر والاعتزاز . إنني أحلم بغباء ببلد مثل أي بلد آخر . تضغط على زر فيشعل النور . تفتح الحنفية الزرقاء , فيجري الماء البارد , تفتح الحنفية الحمراء فيجري الماء الساخن . ترفع السماعة , ويا للأعجوبة ! تسمع الخط . (80)

* كل إنسان يحتجز إنساناً آخر ويعذبه ويهينه , يستحق أن يوصف بالخسيس , سواء أكان قاطع طريق , أم مناضلاً , أم ممثلاً للقانون , أم رئيس بلد . (105)

* إن الجيل الذي أنتمي إليه , جيل النساء والرجال الذين كانوا في العشرين من العمر في سبعينيات القرن العشرين , كان يضع في صلب اهتماماته تحرر الجسد . ومع الوقت , اقتنعت بأننا كنا على صواب تماماً . فأشكال الاستبداد النفسي تقيد عقولنا بتقييد أجسادنا أولاً .. وهذا ليس سلاحها الوحيد لممارسة الرقابة والهيمنة , ولكنه أثبت انه الأنجع على مر التاريخ . ولذا , فانعتاق الجسد يبقى , في الإجمال , فعلاً تحريرياً , بشرط ألا نستخدمه , مع ذلك , لتبرير جميع ابتذالات مسلكنا . (142)

* الهاتف خبيث , مخادع . يضع بين المتكلمين قرباً زائفاً , يشجع الآنية والسطحية , والأسوأ , عند مؤرخ مثلي , انه لا يترك أي أثر . (172)

* تلك هي الحجة الدائمة لإرغامنا على السكوت . في مجتمع مثل مجتمعنا , العيب أداة استبداد . الإحساس بالذنب والعيب , هذا ما اخترعته الأديان لكي تقيد حركتنا ! ولكي تمنعنا من الاستمتاع بعيشنا ! لو تسنى للرجال والنساء الحديث بصراحة عن علاقاتهم , وعن مشاعرهم , وعن أجسادهم , لكانت البشرية جمعاء أكثر ازدهاراً وإبداعاً . (219)

* الزعران الذين يتصرفون مثل الزعران منسجمون مع أنفسهم , والشرفاء الذين تجبرهم الظروف على التصرف مثل الزعران ينهشهم الندم من الداخل . (246)

* في البيئات التقليدية التي لا يحصل فيها تعارف على الإطلاق قبل الزواج , والتي لا يجوز حتى فيها أن يتكلم الشاب والبنت قبل اقترانهما إلى الأبد , الزواج مثل تلك الحلوى الصينية التي تُقَدَّم للمرء في نهاية وجبة طعام , فيتناول قطعة منها كيفما اتفق , ويفتحها , ويبسط الورقة الموجودة في الداخل , فيراها تتنبأ له بمستقبله . (252)

* قبل الزواج يُظهر الرجل الكثير من الاهتمام , والتودد , ويعامل البنت التي يرغب بها كالأميرة , إلى أن تصبح زوجته , فعندها , وبسرعة فائقة , يصبح مستبداً , ويعاملها كالخادمة , ويتبدل رأساً على عقب , والمجتمع يشجعه على ذلك . قبل الزواج يكون موسم اللهو , وبعد الزواج , تبدأ الأمور الجدّية والوضيعة والتعسة .

وليس الوضع أفضل حالاً بالنسبة إلى المرأة . فهي تكثر من التودد ما دامت تسعى وراء عريس , فتكون لطيفة , متساهلة , رضية – تتحلى بكل الصفات لإشاعة الطمأنينة في نفس طالب القرب , إلى أن يتزوج بها . وعندها فقط , يسقط القناع وتظهر على حقيقتها التي بذلت قصارى جهدها لإخفائها حتى ذلك الحين . (253)

* الناشطون المتطرفون سيصبحون حتماً طغاة في يومٍ من الأيام . ولكنهم مضطهدون في أغلب بلداننا , وفي الغرب , ينظر إليهم كأنهم الخطر الماحق . أترغب بالدفاع عن أحد المضطهدين فيما تعلم علم اليقين بأنه سيتصرف غداً كطاغية ؟ إنها معضلة لا أفلح في حلّها . (267)

* ما هو ذلك الإيمان الذي يملي على الإنسان أن يفارق أعز أصدقائه وأصدقهم لكي يذهب إلى الله ؟ ألأن الله هناك , في الجبل , وليس هنا , في المدينة ؟ ألأن الله في الدير , وليس في الورش وفي المكاتب ؟ إذا كان المرء يؤمن بالله , فعليه أن يؤمن بأنه في كل مكان ! (285)

* يزعجني ذلك الأسلوب الرائج اليوم في إقحام الدين أينما كان , وتبرير كل الأمور باسمه . إذا قررت أن أتزيا بهذا الزي , فهذا لأجل ديني . إذا قررت أن آكل هذا الصنف أو ذاك , فهذا لأجل ديني . أفارق أصدقائي , ولا أحتاج لتبرير موقفي , فديني يناديني .

أصبح الدين يقحم في جميع الامور , ويظنون انهم يخدمونه , فيما هم يسخّرونه في الواقع لمآربهم الشخصية , أو لنزواتهم .

الدين مهم , إنما ليس أهم من الأسرة , وليس أهم من الصداقة , وليس أهم من الإخلاص . لقد أصبح يحل بالنسبة الى عدد متزايد من الناس محل الأخلاق . يحدثونك عن الحلال والحرام , وعن الطهارة والنجاسة , ويسوقون الشواهد الدامغة . لوددت لو يهتمون بالصدق والحشمة . فلأن لديهم ديانة يظنون أن الأمر يعفيهم من التحلي بالأخلاق .

أنا من أسرة مؤمنة ومتدينة . كان جد جدي شيخ الإسلام في عصر السلاطين العثمانيين . كنا دوماً نصوم رمضان في أسرتي . كان الأمر طبيعياً , وعفوياً , ولا نمارسه بالتطبيل والتزمير . أما في هذه الأيام , فلم يعد يكفي أن يصوم المرء , بل يجب أن يظهر للجميع بأنه صائم , وأن يراقب من لا يصوم عن كثب .

في أحد الأيام , سيضيق الناس ذرعاً بدين يجتاح حياتهم , وسيرفضون كل شيء , الصالح والطالح . (286_287)

* كان هارون الرشيد خليفة , وإمبراطوريته تمتد من المغرب إلى الهند , ولكنه كان يحسد وزيره جعفر على ما يتمتع به من رخاء , وقد سعى جاهداً لإفلاسه ومصادرة ممتلكاته . هناك أشخاص يفرحون لسعادة الآخرين , وإن لم يشاطروها إلا مشاطرة وجيزة , وبصورة مجتزأة جداً , ومن الخارج . وهناك أشخاص آخرون يشعرون بأنهم يتعرضون للاعتداء بسبب سعادة الآخرين ( 288)

* غداة الحرب العالمية الثانية , اكتشف الغرب هول معسكرات الاعتقال , وفظاعة العداء للسامية , اما العرَب فلم يظهر لهم اليهود على الإطلاق بمظهر المدنيين العُزَّل , المهانين , المهزومين , إنما بمظهر الجيش الغازي , المدجج , المنظم , والمتميز بفاعلية مخيفة . وخلال العقود التالية , اتسعت حدّة هذا الاختلاف في النظرة . ففي الغرب , أصبح الاعتراف بفظاعة المجزرة التي ارتكبتها النازية عنصراً أساسياً في الضمير الأخلاقي المعاصر , ولقد ترجم ذلك إلى دعم مادي ومعنوي للدولة التي لجأت الجماعات اليهودية المضطهدة إليها . أما في العالَم العربي , حيث كانت اسرائيل تحرز النصر تلو الآخر على المصريين والسوريين والأردنيين واللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين , بل وعلى العرب مجتمعين , فلم يكن بالإمكان بالطبع النظر إلى الأمور بالطريقة نفسها . والنتيجة , وهذا ما أردت التوصل إليه , أن هذا النزاع مع اسرائيل قد فصل العرب عن ضمير العالم , أو على الأقل عن ضمير الغرب , والأمر سيان تقريباً . (311_310)

* إذا كان المرء يحب القراءة , فالعينان أكثر فائدة من زوجتين (376)

* أن يمتنع شخص عن تناول هذا المشروب أو ذاك , هذا الصنف من الطعام ام ذاك , لان معتقداته تفرض عليه ذلك , فهذا موقف احترمه . أما ما أرفضه فأن يسعى أحدهم لفرض ذلك على الآخرين , وبخاصة حين تتدخل الحكومات في ذلك . (378)

* لقد قال أحدهم يوماً عن الطهرانيين الإنكليز : “ليسوا متطرفين بالفعل , إنهم حريصون فقط على التأكد من أن لا أحد يستمتع في أي مكان” (379)

* في كل عصر يعرب البشر عن آراء ويتبنون مواقف يظنون أنها نابعة من تفكيرهم الخاص , فيما هي تأتيهم في الواقع من “ذهنية العصر” تلك , وليس ذلك بمثابة القدر المحتوم , بل لنقل أنها ريح شديدة القوة يصعب مقاومتها . (389)

* العزاء عندنا تقنية إرهاق . فلشدة ما يصاب الأشخاص المحزنون بالإعياء لا يعودون حتى قادرين على التفكير في مصابهم (401)

* والحق يقال أننا ننزع أحياناً , حين يحيد المرء عن الطرق المألوفة , إلى معاملته وكأنه في محنة , او ضحية سجان , أو مضلل , أو ضحية ضلالاته الشخصية . (423)

* الشخص الذي ينتمي الى أقلية يرغب بعدم المجاهرة باختلافه عوضاً عن إبرازه أو استعراضه كالراية الخفاقة . ولا يكشف عن انتمائه إلا إذا اخترق أحدهم تحصيناته – وهذا يحصل دوماً في نهاية المطاف . ويكفي أحياناً كلمة أو نظرة لكي يشعر بنفسه فجأة غريباً على أرض عاش عليها أهله منذ قرون , منذ آلاف السنين , قبل أن تظهر الطوائف التي لديها الغلبة اليوم . وإزاء هذه الحقيقة , يستجيب كل امرئ حسب طبعه – بخجل , بمرارة , بخنوع , أم بعنفوان . (427)

* أعتقد أن القرن المنتهي شهد عقيدتين مدرتين : الشيوعية ومناهضة الشيوعية , الاولى شوّهَت , والحق يقال , فكرة المساواة , وفكرة التقدم , وفكرة الثورة , ومفاهيم كثيرة أخرى كان يجدر بها ان تكون محترمة . ولكن محصلة الثانية أسوأ . فلكثرة ما قيل : ” موسوليني ولا لينين” , “هتلر ولا ستالين” , ” الاشتراكية القومية ولا الجبهة الوطنية” , ترك العالم بأسره ينغمس في الدناءة والهمجية . (466)

* في بلداننا , تقوم الثورات باسم الشعب , ويجد الشعب نفسه مطروداً , ومرمياً على الطرقات . (499)

* المنفى في زمن القياصرة , بالمقارنة مع المنفى في الحقبة الستالينية , يكاد يشبه المخيم الصيفي . ولن يكون بوسعكم إلا أن تتساءلوا : هل كان ذلك هو نظام القياصرة المقيت الذي كان يتوجب القضاء عليه مهما كلّف الامر ؟ (501)

* طوال حياتي , أردت لهذه المنطقة أن تتطور وتتقدم وتنتقل إلى الحداثة , ولم أصادف سوى الخيبات . فباسم التقدم والعدالة والحرية والأمة أو الدين , لا يكفون عن إقحامنا في مغامرات تتحول إلى كوارث في نهاية المطاف . وعلى داعة الثورة الإثبات سلفاً بان المجتمع الذي سيعملون على إنشائه سيكون أكثر تحرراً وإنصافاً وأقل فساداً من المجتمع القائم حالياً . (501)

Leave a comment

إختبار الثلاث _ سقراط

سقراط

(إختبار الثلاث)

في يومٍ من الأيام جاء أحدهم إلى الفيلسوف اليوناني (سقراط) مستعجلاً , وقال له : ” يا سقراط , هل تعلم ماذا سمعت للتو عن تلميذٍ من تلامذتك ؟”

_ ” تمهّل لحظة ” , أجاب سقراط . ” قبل أن تخبرني بشيء أريد أولاً اجراء اختبار بسيط , يدعى بـ (اختبار الثلاث) ( Test of Three) .

* ” إختبار الثلاث !!! “

_ “نعم” , وتابع سقراط كلامه. ” قبل أن تخبرني شيئاً عن أحد التلاميذ دعنا نصرف لحظة من الوقت لإختبار ما تُريد قوله .

الإختبار الأول هو (الصحّة) . فهل أنت متأكّدٌ تماماً من صحّة ما تريد اخباري به ؟ “

* “كلا” , أجابه الرجُل . ” أنا في الواقع سمعت عن ذلك فقط “

_ “حسناً” , قال سقراط . ” اذاً أنت لا تعرف حقّاً إن كان ذلك صحيحاً أم لا . الآن سنقوم بإجراء الإختبار الثاني وهو اختبار الـ (الجودة) .

فهل ما تريد إخباري عنه فيما يتعلق بأحد التلاميذ هو شيء جيّد ؟ “

* “كلا , بل على العكس من ذلك ..”

_ فقال سقراط : “إذاً أنت تريد إخباري شيئاً سيّئاً عنه , مع أنك لست متأكداً من صحّة كلامك ؟ “

فأجفل الرَجُل وشعر بقليلٍ من الخجل .

تابع سقراط كلامه . ” ومع ذلك قد تستطيع اجتياز الإختبار , فما زال هناك الإختبار الثالث , وهو اختبار الـ “منفعة” .

فهل ما تريد إطلاعي عليه هو أمرٌ يعود علي بالنفع ؟ “

* ” كلا , هو ليس كذلك”

_ “حسناً” , وختم سقراط كلامه . ” إذا لم يكن ما تود إخباري به صحيحاً او جيّداً أو نافعاً حتى , فلماذا عليك اخباري به إذاً ؟”

Leave a comment

قبيلة الموسو , مجتمع يحكمه النساء

موسو

قبيلة الموسو , مجتمع تحكمه النساء .

قبيلة الموسو هي احدى القبائل المميّزة في الصين الواقعة على ضفاف بحيرة لوغو , والذي يميّزها عن غيرها هو سيطرة النساء على هذا المجتمع .

حيث تدير النساء أمور القبيلة وتسيطر على زمام الأمور , فالملكية تعود للمرأة والإرث تنقله الأم إلى بناتها الشرعيات اما الذكور فلا نصيب لهم لا في الممتلكات ولا غيرها .

اما كلمة “أب” فهي ملغيّة من قاموسهم ولا تعني لهم شيئاً على الإطلاق , فحينما تنجب المرأة يحمل الوليد إسم امه وينتسب لها فقط , ولا يحقّ للأب حضانة الأطفال , فهو ليس إلا وسيلة للإنجاب اما الزواج في هذه القبيلة لا قيمة له كي لا تفقد المرأة سيطرتها بارتباطها مع الرجل .

الشيء الملفت للنظر في هذا المجتمع الأنثويّ , أنه لا وجود لجرائم السرقة وحوادث الإغتصاب والتحرّش الجنسي ولامعنى لكلمة حروب او سجون فهذه الجرائم مشطوبة تماما في سجلاّتهم فلا مطامع في نفوس هؤلاء رجالا ونساءً ولانزاعات حول حول ملكية عقارٍ ما او قطعة أرض تعود لهذه المرأة او ذاك الرجل ولا قانون للأحوال الشخصية وخصومات المحاكم بشأن حضانة الاطفال ومصاريف النفقة وما الى ذلك مما تعجّ به مجتمعاتنا ومحاكمنا.

ومما يثير التعجّب أيضاً , أن الرجال لا توجد لديهم النيّة للتمرّد او تغيير قوانين حكم القبيلة وزعامة النساء لمجتمعهم , فهم سعداء بهذا الأمر .

*فيديو : http://www.youtube.com/watch?v=HBGjpCh5C70